>

الجمعة، 8 يوليو 2011

المادة العلمية الخاصة بمحاضرات صفات المربي الجزء الأول

صفات المربي
دراسة تحليلية


إن من تأمل تاريخ الدعوة وجد أن كل من أحدث فتنة أو أثار مشكلة أو تنكب طريقًا كان غالبا من الذين لم ينالوا التربية الكافية الراشدة في أوائل أمرهم .
وإذا اعتبرنا أن ركني التربية الأساسيين من الناحية العلمية : منهج واضح شامل « يمثل الشق النظري » ومربى كًفء « يمثل الشق العملي » وأن جوانب الخلل في العملية التربوية إنما تأول في معظمها إلى الاختلال في هذين الركنين ، فإن حديثنا عن صفات المربي ومؤهلاته يتناول ولا شك نصف قضية التربية وجانبًا هامًا من أسباب مشكلاتها ، بل لا نبالغ إذا قلنا : إنه النصف الأهم الذي بدونه يتحول الكلام عن المنهج إلى حبر على ورق .
فمن ثم تبرز أهمية تحرير المواصفات الكاملة لشخصية المربي ، وبادئ ذي بدء ينبغي استعراض بعض الملاحظات التحليلية الهامة وصولًا إلى تحديد أمثل لهذه الصفات ، وابتعادًا عن المغالاة أو التساهل .
1- العوامل المؤثرة على المتربي :
وهي تحدث تغييرات متفاوتة ـ بالسلب والإيجاب ـ في مستواه التربوي في مختلف جوانبه ، ومن أهم هذه العوامل :
أ ـ المجتمع :
الذي يعيش فيه ، ويخضع لقواعده ونظمه ، وتتحكم فيه أعرافه وتقاليده ، ويؤثر فيه قربه أو بعده عن الإسلام ، وكل ذلك يحتوى ـ غالبًا ـ على الكثير من المؤثرات الفاسدة والمعوقات الفاعلة التي تعرقل نموه التربوي أو تؤخره أو تشوهه .
ب ـ الظروف الشخصية :
مثل : الحالة الأسرية ، والاقتصادية ، والثقافية ، والعلاقات الاجتماعية والشخصية
ج ـ المجتمع المتدين :
نفسه الذي يحتويه ويرتبط معه بعلاقات الأخوة والدعوة فله التأثيرات المتفاوتة عليه .
وهذه العوامل مع اختلافها يجمعها : أن تأثر شخصية المتربي بها يتسم بالعشوائية فيما صلح منها أو فسد ، بحيث لو اعتمدنا نموه وفقها فحسب ، لوجدنا أنفسنا بعد فترة أمام شخصية تجمع متناقضات عديدة .
وهنا يبرز دور المربي الذي يمثل الجهد التربوي بصورة متوازنة بعيدة عن الاختلال والعشوائية .
ولهذا نقول : إنه لا يصلح كل أحد أن يكون مربيًا ، فللمربي صفات تتناسب مع الدور الذي يقوم به .
2- المربي والداعية والقائد :
يخلط الكثيرون بين أدوار الدعوة والتربية والقيادة ، ومن ثم يخلطون بين الصفات اللازمة للقائم بكل منها ، ونحن نريد تحديدًا علميًا لصفات المربي بعيًدا عن مبدأ « كله خير » وبعيدًا أيضًا عن نموذج الداعية الشامل المسيطر إلى حد كبير في الأوساط الدعوية ، الذي يصلح لأداء جميع الأدوار .
فالمسلم منذ أن يضع قدمه على طريق الدعوة ، ينبغي أن تلزمه صفات ومؤهلات عامة للقيام بهذه المهمة الجليلة مثل : الإخلاص ، والعلم ، والحكمة ، ونحوها ، أما من يريد تخصيصه في مجال التربية فلا بد عندها من البحث عن توفر مستويات وصفات إضافية يتطلبها أداء ذلك العمل وهذه المستويات والصفات الإضافية هي موضوعنا لا غير .
ونستطيع أن نقول : إن القائد هو الذي يتولى إدارة الأفراد وحملهم نحو تحقيق الأهداف الموضوعة والمربي هو الذي يتولى إعداد الأفراد وتأهيلهم ليعملوا على تحقيق تلك الأهداف ، ولقب الداعية يجمعهم وغيرهم من أصناف العاملين في إطار واحد .
ويمكن أن نتلمس ذلك بوضوح في سيرة النبي غ في منهج انتقائه من بين أصحابة لأدوار تربوية أو قيادية ، فهو غ قد رباهم على الإخلاص وعلمهم دينهم بداية ، فكان الرجل منهم لا يألوا أن يدعوا إلى الإسلام ما استطاع ، ثم كان ينتقى أشخاصًا بعينهم لأدوار تربوية ـ في المقام الأول ـ مثل اختياره مصعب بن عمير وإرساله إلى المدينة ، واختياره معاذ بن جبل وإرساله إلى اليمن ، ونعرف أثر كل منهما في المكان الذي أرسل إليه ، ونعرف أيضًا أن الدور التربوي ظل ألصق الأدوار بهما .
فإذا كان الدور يتطلب رجلًا قياديًا ـ في المقام الأول ـ كان له رجاله أيضًا ، مثل اختياره عمرو بن العاص وأبا عبيدة  بن الجراح ب لقيادة بعض السرايا ، ونعرف أيضًا أن الدور القيادي ظل ألصق الأدوار بهما .
3- المربي بين التساهل والمبالغة :
هناك اتجاهان في انتقاء الشخصيات المربية :
الأول : يقوم على  المبالغة في تحديد الصفات الخاصة بالمربي ، ولزوم تحققها فيه بمستويات عالية ، فتغلب عليه المثالية في تصور حال المربي ، بحيث ينتهي الأمر عند مطابقة هذه المواصفات واقعيًا إلى أنه يكاد ألا يكون هناك تربية ولا مُربين ، وإنما هو العبث وسد الخانات ثم تبقي هذه المواصفات المثالية طي الأوراق بعيدة عن محاولة تحقيقها اكتفاء بآهات الحسرة .
الثاني : يقوم على التساهل في صفات المربي ، بحيث تتسع الدائرة لشمل أعدادًا كبيرة لا يمثل الانتقاء معها مشكلة ، ودافع ذلك الاتجاه تغليب احتياجات الدعوة وتبعات انتشارها وانفتاحها دون إعتبار حقيقي لحال المنتقى .
وكلا الاتجاهين لا يصلح منطلقًا لمعيار معتدل للمربي .
فالاتجاه الأول يتجاهل أن « المثاليات تتفرق في نفوس شتى ، ولا تجتمع في نفس واحدة كل المثاليات » ([1]) ، ولا يجتمع أغلبها إلا في نفوس معدودة و « إنما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة » ([2]) كما قال النبي غ فربط العمل التربوي بذلك تعطيل له ، وإعاقة لجهود الارتقاء به ، ومدعاة لكل من يعجز عن محاكاة الصورة المثالية أن يتراجع ويترك العمل ، وهذا ما حذرنا منه عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد / ، إذ لما إستَعمل على الجزيرة وعلى قضائها وخراجها ميمون بن مهران / صعب على ميمون أن يحاكي الوضع المثالي هناك ، فكتب إلى عمر يستعفيه : كلفتني ما لا أطيق ، فكتب إليه عمر(اجْبِ من الخراج الطيب، واقـضِ بما استبان لك، فإذا التبس عليك أمر فادفعه إليَّ؛ فإن الناس لو كان إذا كَبُر عليهم أمر تركوه ما قام لهم دين ولا دنيا)3
ولذلك فمهمة الصورة المثالية إذن العلاج من الانحرافات على ضوئها ، وكذلك هي التي تشجعنا على الصعود أولًا ثم على العودة إلى الصعود بعد كل انتكاس ومن هنا يلتقي الواقع بالمثال ([3]) .
أم الاتجاه الثاني الذي يتبنى شعار : « الجود بالموجود » فيفوته أن إعتبار إحتياجات العمل الدعوى مع الإعراض عن كفاءة المربي وصلاحيته خلل في التصور يتبعه خلل في العمل ، إذا أن إتاحة الفرصة لغير ذوي الأهلية والكفاية مهلكة لهم فوق أنها مضيعة للعمل .
وهنا يأتي السؤال : إذا كان النموذج المثالي إسترشاديًا والنموذج الواقعي المنفتح لا يصلح للإسترشاد أو البدء به فماذا نفعل ؟
والجواب : أنه يلزمنا تحديد نموذج معتدل معياري للمربي يتوفر فيه أمران :
الأول : صفات أساسية هي من لوازم عمل المربي تحديدًا .
الثاني : أن تتحقق هذه الصفات في المربي بمستوى معين يختلف بإختلاف الظروف والبيئة الدعوية يمثل الحد الأدنى الذي يفصل بين اختلال عمل المربي ، وبين عروجه على طريق الرشد التربوي ، وبمعنى آخر يفصل بين النموذج الانفتاحي وبين النموذج المعتدل .
وينبغي ألا تسند للداعية أي مسؤوليات تربوية قبل موافقة حاله لهذا النموذج ـ وفق حده الأدنى ـ وإنما يحكم بذلك أهل العلم والخبرة بهذا الأمر ، كما يقرر الإمام مالك / : « لا ينبغي للرجل يرى نفسه أهلًا لشيء حتى يسأل من كان أعلم منه » ([4]) ثم يأتي بعده التفاعل والإرتقاء مع الهمة الذاتية واكتساب الخبرة والتمرس في العمل التربوي .
والآن نصل إلى الكلام عن صفات المربي وتجدر الإشارة هنا إلى الاعتماد على الأسلوب التحليلي في هذه الدراسة مع تجاوز اقتصار كتابات سابقة كثيرة على ذكر فضل الصفات وأهميتها نتجاوز ذلك إلى تحديد أدق لمعنى تلك الصفات تربويًا مع الخوض في كيفية الاتصاف بها وأثر كل صفة على العمل التربوي .
الصفات الأساسية للمربي
وهذه الصفات المختارة والتي هي من مؤهلات الداعية لممارسة العمل التربوي ، يمكن تقسيمها وترتيبها وفقًا لإبتداء تأثيرها إلى ثلاث مجموعات :
الأولى : مقومات البدء والانطلاق : « العلم ـ حسن السمت وتمثل مستوى القدوة ـ الثقافة والتجربة ـ العمق الإيماني ـ الاتباع ـ الهدى الظاهر »
الثانية : مقومات الإتقان : « وهي مجموعة قدرات نفسية وعمليه مهمتها رفع مستوي الأداء التربوي » .
الثالثة :  مقومات الاستمرار : « الصبر على ..و ..و .. » .
أولاً : مقومات البدء والانطلاق :
الصفة الأولى العلم :
ويهمنا في تحلى المربي بهذه الصفة لا مجرد حفظ واستظهار مجموعة من الكتب ـ وإن كثرت ـ بل تحقق أمور بعينها تمثل ما نقصده من وصف المربي بالعلم ، وهي :
1- المنهجية في تحصيل العلم :
وطبيعة عمل المربي وإن كانت لا تسمح له بالاستغراق في طلب العلم وبلوغ الغاية فيه إلا أنه ينبغي أن يحرص على تعويض ذلك بأمرين :
الأول : الشمول والتوازن في طلب العلم :
وذلك بأن يحرص أن يكون له في كل مجال طلب ، وفي كل علم قدم ، ويأخذ من كل باب بقدر أهميته في مجال عمله التربوي ، فيتجنب أن يكون هناك علوم لا يعلم عنها شيئًا البتة ، أو أن يتعمق في مجال ما على حساب تسطيح مجالات أخري وضابطه في ذلك تعلُّق ما يُحصِّل بما يعمل .
الثاني : الضبط العملي :
ونعنى به أن يتقن المربي أمورًا مثل إسناد الأقوال لقائليها أو مواضعها أو مظانها وبيان درجة الحديث من الصحة أو الضعف وإتقان لفظ النص وضبط التواريخ والأسماء ونحو ذلك ، وقبيح بالمربي أن تكثر على لسانه عبارات مثل : أظن أن قائله فلان ، أو أظنه صحيحًا ، أو ما معناه ، ونحوه ، فإنه إن كان « نصف العلم : لا أدري » فـ « نصف الجهل : قيل ، وأظن » ([5])  .
واتصاف المربي بالضبط العلمي يعطي له سمت أهل العلم ولو كان قليل العلم نسبيًا ، في حين أن اتصافه بعدم الضبط العلمي يفقده هذا السمت وإن كان كثير القراءات متشعب الاهتمامات العلمية .
وقد كان السلف رضوان الله عليهم يهتمون بضوابط علمهم اهتمامًا شديدًا فيكفي أن نتأمل في علوم الرواية لنرى مصطلحات كثيرة على شاكلة : الإملاء ، العرض ، المقابلة ، وكلها تدور حول تحقيق الضبط العلمي لما يقولون ويكتبون .
كما أن عدم الضبط يعنى كثرة الخطأ : أي : تلقين المتربين معلومات أو أفكار خاطئة يحملونها ، وقد لا يكتشفون خطأها إلا بعد فترات طويلة ، بل قد ينقلونها غيرهم على ما هي عليه ، مما يعنى توارث الأخطاء وقد أسند الخطيب عن الرحبي قال : « سمعت بعض أصحابنا يقول : إذا كتب لحان فكتب عن اللحان لحان آخر ، فكتب عن اللحان لحان آخر ، صار الحديث بالفارسية »
عن أبي موسى ت عن النبي غ : « مثل ما بعثني الله به من الهدى والعم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع لذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به » أخرجه البخاري باب فضل من عَلِمَ وعَلَّمَ .
2- التفرقة بين تحصيل العلم للاستظهار والامتحان وبين تحصيله لتبليغه وتربية الناس عليه :
فطالب العلم في الحالة الأولى يهتم أساسًا بحفظ الألفاظ وضبط الاختلافات ويغيب عنه الكثير من المعاني والإشراقات والدلالات التي تحملها الألفاظ وتدعو إليها ، بينما طالبه في الحال الثانية بغيته المقدمة تلك الدلالات ، وليس أقوى في تمثل الحال الثانية من إتباع طريقة السلف في حفظ العلم عن طريق العمل به فذلك مما يفتح على طالبه بابًا عظيمًا من فوائد العلم وإشراقاته إن علم فعمل ، فقد روى عن السلف أنهم كانوا يقولون : « كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به » .
3- التوازن بين مذاكرة العلم واستمرار البناء العلمي وبين العطاء التربوي :
فإذا كنا نشترط للمربي صفة العلم ، فإن إتصافه بذلك مقترن باستمراره على المراجعة والطلب فإذا توقف كان إلى الجهل أقرب ، قال سعيد بن جبير : « لا يزال الرجل عالمًا ما تعلم ، فإذا ترك العلم وظن أنه قد إستغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون » ([6]) .
والذي يحتج بأن العمل التربوي لا يتيح له باستمرار التعلم يغفل عن أن عمله ذلك لن يستمر إلا لمدة ثم لا يجد ما يعطيه ، ففعله كفعل صاحب الحديث الذي يتشاغل عن مراجعته وطلبه بالتحديث ببعضه فهو كما قال عبد الرحمن بن مهدي : « إنما مثل صاحب الحديث مثل السمسار : إذا غاب عن السوق خمسة أيام ذهب عنه أسعار ما في السوق » ([7]) .
فلا يلبث إلا وقد نصب ما لديه من العلم ، ثم يصل بعدها إلى مرحلة التحضير بالقطعة أو بالطلب ثم إلى مرحلة الإعادة والتكرار ، وقد يشعر المتربي بأن مربيه قد فرغ جرابه مع ما في ذلك من أثر سيء .
وكان أهل العلم من السلف يحرصون على إيجاد هذا التوازن بين طلبهم ومذاكرتهم العلم ، وبين تعليمهم إياه ويتضح ذلك جاليًا في قول ابن مهدى / : « كان الرجل من أهل العلم إذا لقي من هو فوقه في العلم فهو في غنيمته ، سأله وتعلم منه ، وإذا لقي من هو دونه في العلم علمه وتواضع له ، وإذا لقي من هو مثله في العلم ، ذاكره ودراسه » ([8]) .
4- وضع العلم في إطار من الهيبة والوقار عند إلقائه أو تدريسه :
قال عمر ت : « تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والوقار » ([9]) .
فذلك من شأنه أن يجعل للعلم الأثر النفسي ثم العملي اللائق به ، مما يوفر على المربي جهدًا كبيرًا ويقرب له التوفيق من عمله قال أحمد بن سنان : « كان عبد الرحمن بن مهدي لا يتحدث في مجلسه ، ولا يبرى قلم ، ولا يقوم أحد كأنما على رؤوسهم الطير ، أو كأنهم في صلاة ، فإن تُحدث أو بُري قلم صاح ولبس نعليه ودخل » ([10]) فما ظنك بأثر العلم الذي يتلقونه « في نفوسهم » وهم على هذه الحال ؟! .
وفي المقابل : حين دخل / على الوليد بن زيد وهو خليفة فقال له الوليد : يا ربيعة ! حدثنا ! قال : ما أحدث شيئًا . فلما خرج من عنده قال : ألا تعجبون من هذا الذي يقترح علي كما يقترح على المغنية : حدثنا يا ربيعة ! ([11]) .
الصفة الثانية : حسن السمت وتمثل مستوى القدوة :
عن ابن عباس أن النبي غ قال : « الهدي الصالح ، والسمت الصالح ، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة » ([12]) .
فهذا الحديث يبين لنا أن الذي يتحلى بالسمت الصالح والهدي الصالح يُقتدى به ويحاكي بعض صفات النبوة ، وكفى بذلك شرفًا .
والسمت والهدي متقاربا المعنى ، فالسمت بمعنى الطريقة أو هيئة أهل الخير ([13]) والهدي هو الطريقة أو السيرة ([14]) ، وهدي الرجل سيرته العامة والخاصة وحاله وأخلاقه ([15]) .
فهذا يشمل إذن ما يتعلق بحال المسلم من كلام وأفعال وتعاملات وملبس وهيئة وحركات وسكنات ونحوه ولا يتسع المجال بالطبع لاستعراض تفاصيل ذلك ، ولكن لكل علم مظانه ([16]) .
والمراد أن المربي أولى الناس بالاتصاف بحسن السمت والهدي والأدب ، إذ أنه القدوة الأولى لمن يربيهم وقدوة المرء من تسنن واقتدى به ([17]) ، وإذا كان مجرد المخالطة والاجتماع تفتح مجالًا كبيرًا لتبادل الطباع والأخلاق ، إذ الطبع لص ـ كما يقولون ـ يسرق من غيره ، فكيف بمن يجتمع في حقه أثر المخالطة مع أثر الاحترام والاعتراف بالفضل .
ويكفي لتصور هذه الصفة بالنسبة للمربي أن نعلم أنه عندما ينزل عن مستوى القدوة الحسنة فيتدنى مستوى فعله عن مستوى كلامه فإنه يكون أشبه بمن يمسك في إحدى يديه قلمًا وفي الأخرى ممحاة فكلما كتب كلامًا بيمناه محته يسراه ، « ومن لا يستطيع تصحيح أخطاء نفسه فلا يصح له أن يكون قيمًا على أخطاء الآخرين يصحح لهم وينقد » . 
ولبيان موقع القدوة الحسنة من التأثير نقول :
إن الخطاب التربوي يمكن تجريده إلى ثلاثة أمور .
الأول : الكلام النظري : ونعنى به بيان الأمر مع الثواب أو العقاب .
الثاني : حكاية الفعل : ونعنى به ذكر مثال عملي لما سبق سواء كان معاصرًا أو تاريخيًا .
الثالث : رؤية الفعل « عمل المربي » : ونعنى به التنفيذ العملي الذاتي مما سبق فيما يستطاع شرعًا وواقعًا .
ولو نظرنا في أثر كل من هذه الثلاثة ـ منفردًا ـ في تكوين الدافعية للعمل ، لوجدنا أن ثالثتها « رؤية الفعل » أشد أثرًا وأبقي .
فالنفس لديها استعداد للتأثر بما يلقي إليها من الكلام ولكنه استعداد مؤقت في الغالب ، ولذلك يلزمه التكرار، وحكاية الفعل وإن كانت تقرب المسافة أكثر إلا أن أثرها بمفردها لا يكفينا لتحقيق ما نطمح إليه من رفع المستوى التربوي .
وأما القدوة المنظورة الملموسة فهي التي تعلق المشاعر ، ولا تتركها تهبط إلى القاع وتسكن بلا حِراك بل سرعان ما تترجمها إلى عمل .
وفي هذا المثال من السيرة بيان ذلك :
في صلح الحديبية : لما فرغ رسول الله غ من قضية الكتاب « يعنى الصلح » قال لأصحابه : « قوموا فانحروا ثم احلقوا » فلم يقم منهم رجل ، حتى قال رسول الله غ ذلك ثلاث مرات ، فلم يقم احد ، فدخل على أم سلمة ل فأخبرها الخبر فقالت له : اخرج ثم لا تكلم احد منهم كلمة حتى تنحر بُدنك وتدعوا حالقك فيحلقك . فخرج رسول الله غ فلم يكلم منهم أحدا حتى فعل ذلك ، فلما رأوه فعله غ قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا ([18]) .
نرى في المثال أن الخطاب النظري أحدث أثرًا في نفوس السامعين إلا أنه لم يترجم إلى عمل ، ولما اقترن الأمر بممارسة الفعل سهل عليهم الامتثال والتنفيذ ، فممارسة الفعل إذن هي بمثابة المرحلة الحاسمة والأخيرة التي تبرز قيمة ما سبقها وأثره ، وتخرج ما أحدثه من مشاعر نفسية إلى الوجود في صورة عملية ، وبدونها يظل كم كبير من مفاهيم الإسلام حبيس النفس في غياب الإهمال أو النسيان .
ومن الآثار التربوية المفيدة لتمثل المربي مستوي القدوة الحسنة :
1- توفير الجهد التربوي عن طريق انتقال مفاهيم كثيرة ـ انتقالا غير مباشر ـ بالمحاكاة والتقليد .
عن الصلت بن بسطام التيمي قال : قال لي أبي : الزم عبد الملك ابن أبجر فتعلم من توقيه في الكلام ، فما أعلم بالكوفة أشد تحفظًا للسانه منه ([19]) .
2- تكون حال المربي تلك بمثابة المحفز والمنشط للكثيرين لمحاولة الوصول إليها وبذل الجهد في ذلك ، فإن النفس كلما أقربت من الكمال في جانب صارت لها قوة جذب بحسب حالها تشد الناس إليها ، فهذا عبد الله ابن عون / من أعلام السلف كانت حاله نموذجًا يحفز الكثيرين لمحاكاته ، عن معاذ قال : حدثني غير واحد من أصحاب يونس بين عبيد أنه قال : إني لأعرف رجلًا منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون ، فما يقدر عليه ([20]) ، وورد مثل ذلك عن كثير من السلف في محاولتهم التأسي بحال ابن عون .
3- يكون له أثر عام يتعدى من يرتبط بهم من المتربين ارتباطًا مباشرًا ، فينتفع به آخرون بمراقبته أو بمعرفة حاله ، ونحوه فيسهم ذلك في إيجاد بيئة تربوية راشدة .
قال يونس بن عبيد : كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم ير عمله ولم يسمع كلامه ([21]) .
4- اكتساب كلامه وتوجيهاته قوة نفسية مؤثرة بحسب حاله ، كان أبو العباس السراج من علماء نيسابور وعبادها ، وكان رجل تقيًا حسن السيرة ، وكان الناس يسمعون كلامه قال الحاكم : سمعت أبي يقول : لما ورد الزعفراني وأظهر خلق القرآن سمعت السراج يقول : العنوا الزعفراني ، فيضج الناس بلعنه ، فنزح إلى بخاري ([22]) .
ولأن سوء سيرة المربي تذهب بركة علمه وتفقده تأثيره كان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه تصدق بشيء ، وقال : اللهم استر عيب شيخي عني ، ولا تذهب بركة علمه مني ([23]) .
كيف يكتسب السمت الحسن ؟
هناك عدة مسائل لذلك نذكر أهمها :
1- إصلاح الباطن :
فأدب الظاهر عنوان أدب الباطن ، وقد قال النبي غ : « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب » ([24]) .
2- إعلاء قيمة التأدب وجعله من الأولويات :
وقد كان السلف رحمهم الله منهم من ينفق في ذلك جزءًا كبيرًا من عمره ويعتبر أنه رابح لا خاسر قال الحسن / : إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين والسنتين ([25]) ، ومكث يحيى بن يحيى عامًا كاملًا يأخذ من شمائل مالك / بعد أن فرغ من علمه ([26]) .
3- الإطلاع على حكايات العلماء :
قال أبو حنيفة : الحكايات عن العلماء أحب إلي من كثير من الفقه ، لأنها آداب القوم وأخلاقهم ([27]) .
4- لزوم الصالحين والقدوات الحسنة ومن يستحي منه:
فإن معاشرة هؤلاء ومخالتطهم تسهل على النفس الاقتباس منهم والانضباط بوجودهم .
قال أبو الدرداء رضى الله عنه  : من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه مع أهل العلم ([28]) .
وقال عبدوس : رآني أبو عبد الله يومًا وأنا أضحك فأنا أستحيه إلى اليوم ([29]) .
5- التنفيذ الفوري لما يتعلمه :
عن الحسن أنه قال : قد كان الرجل يطلب العلم ، فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه ، وهديه ، ولسانه وبصره ، وبره ([30]) .
6- مجاهدة النفس وتعويدها على الخير :
قال النبي غ : « إنما العلم بالتعلم ، وإنما الحلم بالتحلم ، ومن يتحر الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه » ([31]) .
وكان عبد الله بن مسعود يقول : تعودوا الخير ، فإنما الخير عادة .
7- معاقبة النفس والشدة عليها :
قال الجيلاني : لا تهربوا من خشونة كلامي ، فما رباني إلا الخشن في دين الله  ومن هرب مني ومن أمثالي لا يفلح ([32]) .
قال بن وهب : نذرت أني كلما اغتبت إنسانا أن أصوم يوما ، فأجهدني فكنت أغتاب وأصوم ، فنويت كلما أغتبت أنسانا أن أتصدق بدرهم ، فمن حب الدراهم تركت الغيبة ([33]) .
الصفة الثالثة : الثقافة والتجربة : ......يتبع



[1])) دراسات في النفس الإنسانية : محمد قطب (ص 379) .
[2])) البخاري (ح/6598) ، ومسلم (ح/2547) .
(3) البدايه والنهايه
[3])) دراسات في النفس الإنسانية (ص/382) .
[4])) حلية الأولياء (ج/6/316) .
[5])) حلية طالب العلم : بكر أبو زيد (ص45) .
[6])) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة : (ص28) .
[7])) النظم التعليمية عند المحدثين ، المكي أقلانية : (ص93) .
[8])) المصدر السابق : (ص82) .
[9])) التذكرة : (ص16) .
[10])) سير أعلام النبلاء : (ج9، ص201) .
[11])) الجامع الأدب الراوي والسامع ، الخطيب البغدادي : (ج/1/336) .
[12])) حسنه الألباني في صحيح الجامع : (1993) ، وهو عند أبي داود .
[13])) القاموس المحيط : (ص197) .
[14])) المصدر السابق : (ص1734) .
[15])) الأعلام : (ص139) .
[16])) يمكن أن يراجع في ذلك كتب كثيرة منها : « مختصر مناهج القاصدين ربع العبادات ، تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ، رسالة تقرير ميداني لمحمد الراشد » .
[17])) القاموس المحيط : (ص1706) .
[18])) تفسير بن كثير : (ج4، ص198) .
[19])) العقلاء لابن أبي الدنيا رقم : (742) .
[20])) سير أعلام النبلاء : (ج6 ،ص366) .
[21])) رسالة للمحاسبي : (ص60) .
[22])) سير أعلام النبلاء : (ج14،ص394) .
[23])) لباب الآداب : (ص227) .
[24])) رواه البخاري وهو صحيح (520) ، ومسلم (1599) .
[25])) الأعلام (ص143) .
[26])) سير أعلام النبلاء : (ج14 ،ص35) .
[27])) التذكرة : (ص50) .
[28])) حلية الأولياء : (ج1 ،ص211) .
[29])) الأعلام : (ص206) .
[30])) شعب الإيمان للبيهقي : (ج2 ،ص291) .
[31])) حسن صحيح الجامع للألباني : (ج1، ص461) .
[32])) الفتح الرباني : (ص22) .
[33])) سير أعلام النبلاء : (ج9 ، ص228) .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق