>

الثلاثاء، 6 نوفمبر 2012

فائدة جليلة


إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
وبعد
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار و بعد

نتكلم اليوم عن قول الله عزوجل
  {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}
[البقرة: 216]



قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
فائدة جليلة
قوله تعالى{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}
[البقرة: 216]
وقوله عز وجل {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)} [النساء: 19]
فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية
والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية
فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية علي نفسه منه وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده
ويحب الموادعة و المتاركة وهذا المحبوب شر له في معاشه ومعاده
وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها وله في إمساكها خير كثير لا يعرفه
ويحب المرأة لوصف من أصافها وله في أمساكها شر كثير لا يعرفه
فالإنسان كما وصفه وصفه به خالقه ظلوم جهول فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه
بل المعيار علي ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه
فانفع الأشياء له علي الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه
وأضر الأشياء عليه علي الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه
فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرا له
وإذا تخلي عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له
فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقينا ان المكروهات التي تصيبه والمحن لتي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع لتي لا يحصيها علمه ولا فكرته بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب
فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها فانظر الى غارس جنة من الجنات خبير بالفلاحة غرس جنة وتعاهدها بالسقي والإصلاح حتى أثمرت أشجارها فاقبل عليها يفصل أوصالها ويقطع أغصانها لعلمه أنها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة حتى إذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها اقبل بقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك
ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت بل يعطشها وقتا ويسقيها وقتا ولا يترك الماء عليها دائما وان كان ذلك أنضر لورقها وأسرع لنباتها ثم يعمد إلى تلك الزينة التي زينت بها من الأوراق فيلقى عنها كثيرا منها لان تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها كما في شجر العنب ونحوه فهو يقطع أعضاءها بالحديد ويلقى عنها كثيرا من زينتها وذلك عين مصلحتها فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان لتوهمت أن ذلك إفساد لها وإضرار بها وإنما هو عين مصلحتها
وكذلك الأب الشفيق علي ولده العالم بمصلحته إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه بضع جلده وقطع عروقه وأذاقه الألم الشديد وان رأى شفاه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه كان ذلك رحمة به وشفقة عليه
وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه
وكذلك يمنعه كثيرا من شهواته حمية له ومصلحة لا بخلا عليه
فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين الذي هو أرحم بعبادة منهم بأنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم إذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيرا لهم من أن لا ينزله بهم نظرا منه لهم وإحسانا إليهم ولطفا بهم
ولو مكنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علما وإرادة وعملا لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته أحبوا أم كرهوا
فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته فلم يتهموه في شيء من أحكامه
وخفي ذلك على من جهل به وبأسمائه وصفاته فنازعوه تدبيره وقدحوا في حكمته ولم ينقادوا لحكمه وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة فلا لربهم عرفوا ولا لمصالحهم حصلوا والله الموفق
ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه فيها إلا نعيم الآخرة فانه لا يزال راضيا عن ربه والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين فانه طيب النفس بما يجري عليه من المقادير التي هي عين اختيار الله له وطمأنينتها إلى أحكامه الدينية وهذا هو الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل له ذلك وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره فكلما كان بذلك أعرف كان به أرضي
فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة لا يخرج عن ذلك البته كما قال في الدعاء المشهور (اللهم إني عبدك ابن عبدك أبن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم ه لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي ما قالها أحد قط إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرجا قالوا أفلا نتعلمهن يا رسول الله قال بلا ينبغى لمن يسمعهن أن يتعلمهن )
والمقصود قوله عدل في قضاؤك وهذا يتناول كل قضاء يقضيه علي عبده من عقوبة أو ألم وسبب ذلك فهو الذي قضى بالسبب وقضي بالمسبب وهو عدل في هذا القضاء وهذا القضاء خير للمؤمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن)
قال العلامة ابن القيم فسألت شيخنا هل يدخل فى ذلك قضاء الذنب ؟
فقال نعم بشرطه
فأجمل في لفظه بشرطه ما يترتب على الذنب من الآثار المحبوبة لله من التوبة والانكسار والندم والخضوع والذل والبكاء وغير ذلك
انتهى من كتاب الفوائد - ابن القيم رحمه الله

يتبع  إن شاء الله 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق