>

الثلاثاء، 27 مارس 2012

منهج التغيير



إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد


تكلمنا في الدرس السابق عن جزء من آية من كتاب الله اصطلحنا على تسميتها بقانون التغيير وهي من سورة الرعد "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّر ُمَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" ثم استعرضنا الوضع الذي نحياه
وحاولنا تلخيصه في كلمات قليلة وعرفنا حكم الله عز وجل في هذا الواقع وتكلمنا على أن الواقع يتلخص في ضياع الدنيا وذهاب الدين وتسلط الأعداء وعرفنا أن حكم الله عز وجل في هذا الواقع هو وجوب التغيير وقلنا كيف السبيل إلى التغيير وقلنا أن الإجابة في قوله تعالى ""إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّر ُمَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"" فلن يغير الله عز وجل هذا الواقع الذي نحياه ولن يستطيع المسلمون تغيير هذا الواقع إلا إذا غيروا من أنفسهم .


وذكرنا أيضا آية من كتاب الله عز وجل نستلهم منها منهج التغيير وهي قول الله سبحانه وتعالى "لَقَد ْكَانَ لَكُم ْفِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَان َيَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَر َاللَّهَ كَثِيرًا" وقلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة والأسوة الحسنة الكاملة في كل شيء ومما يقتدي فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم التغيير فان النبي صلى الله عليه وسلم بعث والأرض مطبقة بالظلم والظلام والفسق والفحش والمنكرات كما صح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث عياض بن حمار الذي أخرجه مسلم "أن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب " .


فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى الثقلين  الى العالمين "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِه ِلِيَكُونَ لِلْعَالَمِين َنَذِيرًا" كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة بل إلى الإنس والجن فما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ دين الله سبحانه وتعالى حتى أسس دولة الإسلام التي أضاءت ربوع الأرض بعد ذلك .
فقلنا لابد لنا ونحن نتلمس التغيير نتلمس خطى النبي صلى الله عليه وسلم وكيف ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ؟ وكيف رباهم على تحمل الشدائد ؟ وعلى حمل هم الدين وعلى القيام بأعباء الدعوة ونشر الرسالة .


مما لا شك فيه أن التربية التي رباها النبي صلى الله عليه وسلم هي تربية فريدة .

الصحابة لو أردنا أن نضع لهم وصفا نقول هم المكون الرئيسي لمادة الإسلام لا سيما في عصر الغربة الأول فمعروف أن هناك عصرين للغربة قال النبي صلى الله عليه وسلم "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" فالصحابة هم من قاموا بحمل عبأ هذا الدين وتثبيت أركانه تحت قيادة النبي صلى الله عليه وسلم .


هناك قاعدة لابد أن نعترف بها وهي سنة ربانية وقانون ثابت في علم الاجتماع وهو قانون يدل على أن التغيير إلى الأصلح لابد أن يعتمد على  نواتج صلبة جدا ونقية ومؤثرة إلى حد بعيد  تجتمع في فلكها عناصر الصلابة والنقاوة والتأثير وهذه النواة لا يمكن أن تتكون إلا بعد أن ينفض من حولها غبار العناصر الهشة ولا يتحقق ذلك إلا بعد أن يخضع الجميع لتمحيص الابتلاء وغربلة الفتنة مصداقا لقوله تعالى "مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْه حَتَّى يمِيزَ الْخَبِيث َمِنَ الطَّيِّبِ" وقوله تعالى "الم (1) أَحَسِب َالنَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُم ْلَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَد ْفَتَنَّا الَّذِينَ مِن ْقَبْلِهِم ْفَلَيَعْلَمَنّ َاللَّهُ الَّذِين َصَدَقُوا وَلَيَعْلَمَن َّالْكَاذِبِينَ" 


ولعل هناك سؤال يتبادر في أذهان حضراتكم وهو
لماذا نركز على تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ولماذا نركز على التربية ونحن نتكلم في منهج التغيير ؟
لأنه لن تتكون عندنا قاعدة صلبة تتحمل الضغوط وتتحمل الشدائد إلا إذا كانت قاعدة مرباه ومنتقاة ومصفاة أي اخرج منها الشوائب شوائب النفس وشوائب الطباع وشوائب التطلع إلى الدنيا وشوائب السعي لتحصيل مكاسب - كل هذه شوائب-  فلابد أن يتواجد عندنا أفراد كما يسميها بعض الكتاب يتواجد نواة من العناصر الصلبة ولعلنا اشرنا من قبل إلى حديث " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف "


فالنبي صلى الله عليه وسلم ربى صحابته الكرام رباهم في مسارات تربوية متعددة في آن واحد فكان يربيهم بالأحداث (التربية بالحدث) ورباهم بأعمال القلوب وبالأخلاق وكانت المادة التي يعتمد عليها في التربية هي الوحي سواء كان هذا الوحي هو القران او ما كان يلقيه النبي صلى الله عليه وسلم لهم من أقواله وأفعاله وتقريراته وهي أيضا من الوحي كما قال تعالى "وَمَا يَنْطِق ُعَنِ الْهَوَى(3) إِن ْهُوَ إِلَّا وَحْي ٌيُوحَى"


ولعل مما زاد في صلابة الصحابة ومما زاد في نقاء النواة الأولى في زمان الغربة الأول أن هذه الفئة المؤمنة  لم تمنى من وعود براقة من منصب ومغنم وجاه دنيوي وإنما ربطت فقط برضوان الله تعالى والجنة في الدار الآخرة لان الغاية من هذه التربية وهذا الإعداد أن تنشأ هذه القلوب على درجة عالية من الصلابة والنقاء والتأثير ولا يكون ذلك إلا بالتجرد من حظوظ النفس وشهواتها ولا يكون ذلك إلا بصرف الهمم إلى التعلق بالآخرة .

نحن ألان لابد أن نضع لنا منهج للتغيير .


ما هو هذا المنهج ؟
هو أن نبدأ بإيجاد الشخصية المسلمة وهذا قد يثير بعض الأشكال ..........ألسنا مسلمين ؟!
بلى ولكن إذا قلنا إيجاد الشخصية المسلمة أي التي يرضاها الله سبحانه وتعالى الشخصية التي عنى النبي صلى الله عليه وسلم بإيجادها في بداية دعوته والتي حضنا على إيجادها ليست الشخصية التي حصلت الحد الأدنى من الإسلام إنما الشخصية المسلمة أي المسلمة إسلاما مرضيا إسلاما يرضى الله سبحانه عن صاحبه .


إيجاد شخصية مسلمة متكاملة ثم إيجاد مجموعة من هذه الشخصيات في إطار ما يسمى بالطائفة المؤمنة أي شخصيات مسلمة يجمعها إطار ومواصفاته من المحبة والتآخي والعمل الجماعي والانصهار في بوتقة الدعوة والعمل الإسلامي ونسيان حظوظ النفس ونسيان إل(أنا )وهو ما يسمى بالطائفة المؤمنة ثم تقوم هذه الطائفة المؤمنة بالقيام بفروض الكفايات المضيعة فروض الكفايات التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم والسعي لإيجاد وسائل وحلول لإقامة الواجبات الكفائية المعجوز عنها ثم بعد ذلك تكون المرحلة النهائية وهي إحدى فروض الكفاية وهي إقامة الخلافة على منهاج النبوة .............وهذا يسمى بخريطة منهج التغيير .
سؤالنا الآن من هي الشخصية الأولى التي نبدأ بدعوتها والتي نركز على إيجادها ....قلنا لابد من تحديد الهدف ....الهدف هو تغيير المجتمع والواقع الذي أحياه إلى واقع يرضي الله عز وجل .......ما الوسائل ؟  إيجاد الشخصية المسلمة وإيجاد الطائفة المؤمنة والسعي لإقامة فروض الكفايات ومنها إقامة الخلافة .
من هي أول شخصية أسعى إلى إيجادها ومخاطبتها ؟!


أول شخصية (أنا ) لابد أن ابدأ بنفسي أولا إذا كل واحد منا لابد أن يخاطب نفسه بهذا الكلام كل منا معه خطة للتغيير لان التغيير في حقه واجب فواجب علينا جميعا أن نسعى إلى تغيير المجتمع الذي نحيا فيه إلى واقع يرضي الله سبحانه وتعالى  هذا ليس فضل منى لكنه فرض فكل منا لابد أن يضع أمامه مستهدف أن يكون هو أول شخصية مسلمة أي الشخصية  المتكاملة المرضية لله عز وجل .
إذا ما هي حدود ومواصفات هذه الشخصية المسلمة ؟


نقول مرة أخرى "إِنّ َهَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ" حتى في طريقة إيجاد الشخصية القران يهدينا للتي هي أقوم في إيجاد الشخصية المسلمة .
هيا نلقي نظرة على شخصية وصفاتها ومن خلال القران أيضا نحن نريد الشخصية التي تتصف بالإحسان ما هو الإحسان ؟
عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فإنه يراك " والإحسان مع الله عز وجل سينعكس أثره على الواقع مع الناس فالمحسن مع ربه محسن مع الناس انظر الى الآية التي ذكرها الله سبحانه في سورة يوسف لما دخل السجن "ثُم َّبَدَا لَهُمْ مِن ْبَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَات ِلَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَان ِقَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أ َرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَر ُإِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُل ُالطَّيْرُ مِنْه ُنَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"


تخيلوا معي هذا الأمر إنسان مسجون في قضية قلب نظام الحكم أو قضية كبيرة في حق واحد من كبار رجال الدولة وفي حق زوجته ...والذى  كثير من رجال الدولة هؤلاء يحكمهم نساءهم للأسف فهو أتى في قضية سياسية ضخمة فهذا بالطبع عندما دخل السجن لم يدخل معززا مكرما بالتأكيد دخل على هيئة المعذبين المضطهدين مع ذلك أول لما يدخل السجن في وسط أصحاب المخالفات ويجلس بينهم يقولوا "إِنَّا نَرَاك َمِنَ الْمُحْسِنِينَ" ......سبحان الله شخصية إحسانها ظاهر وباد حتى داخل ظلمات السجن الإحسان تعدى حدود القلب والصدر حتى فاض على الجوارح وإحسان أبصره حتى المجرمون الذين وضعوا في السجن .....في السجن والظلام والقهر والفقر.. محسن ...


آية أخرى في نفس السورة " قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيز ُإِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذ ْأَحَدَنَا مَكَانَه ُإِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ" فحين أصبح من كبار رجال الدولة وله وجاهة وله خدم وله حراس يقف على خزائن الأرض وله من معاني السلطان والحشمة ما يوقع الكبر في النفوس ولكن مع هذا قالوا له ""إِنَّا نَرَاك َمِنَ الْمُحْسِنِينَ"
هذه الشخصية التي نحتاجها .


ما زال سؤال الأخت في المرة السابقة إنها أخت في أسرة غير ملتزمة بالكامل والصعوبات التي تلقاها ...وهذا يذكرنا بالأيام الماضية ...

وأنا أقول تخيلوا معي لو أن عندنا هذه الشخصية شخصية محسنة ترى أن كل أفراد الأسرة سيقولون لها إنا نراك من المحسنين .

في أي شيء يظهر الإحسان؟
إحسان في الطاعة والحرص على القيام بأمر الله عز وجل وعلى الصلاة وقراءة القران والدعاء والاستغفار والمواظبة على الأذكار وغير ذلك من الصيام ومعاني التعبد .


إحسان باد وظاهر على هذه الشخصية في أفعال الجوارح في النظر محسنة في بصرها تغض البصر, في الاستماع وحفظ الأذن فتعرض عن اللغو إحسان في الكلام, وإحسان في أعمال الجوارح عامة .

شخصية محسنة في سلوكها وأخلاقها عندها حلم وتسامح وتغافل وعندها كرم وسخاء عندها رفق ورحمة بالمخالف لها وفي نفس الوقت عندها حسن ظن وعندها رجاء في الله سبحانه وتعالى .


شخصية فيها إحسان في المعاشرة أي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "المؤمن هين لين إذا قيد انقاد "هينة لينه ليس عندها الأنفة وليس عندها الكبر وليس عندها الاستعلاء .........هذا في الأسرة .
في الجامعة أو في المسجد أو في نطاق العمل الدعوي كل من يراها من أول مرة سيقول إنا نراك من المحسنين حتى ولو لم ينطقوا بها لكنها في أنفسهم  وإذا رأت أخت لأول مرة تحدثها سيقع في قلبها إنا نراك من المحسنين كل هذا ووصف الإحسان ملازم لها حتى لو كانت فقيرة ستكون من المحسنين حتى لو كانت من الأغنياء ستكون من المحسنين حتى وهي شابة حتى ولو تجاوزت في العمر وكانت من العجائز ستكون أيضا من المحسنين .


هذه هي الشخصية التي نبحث عنها (الشخصية المحسنة )

إذا أردنا أن نضع خصائص لهذه الشخصية فكل هذا الكلام جميل فانا حين اقرأ هذه الآيات وأتدبر معانيها اشعر بشوق شديد لمثل هذه الشخصية المحسنة لكن الأماني لا تغني عن أصحابها شيئا لابد أن نجعل الأمر في حيز التنفيذ .

كيف نكون من المحسنين ؟


لابد من عناصر وآليات تنفيذ أيضا سنأخذها من القران "إِنّ َهَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ"
قال تعالى "وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)"
هذه سورة عظيمة القدر وهي سورة العصر كما ورد في اغلب التفاسير وورد في بعض التفاسير إنها تسمى سورة "والعصر" وهذه سورة مكية في قول الجمهور وعدوها السورة الثالثة عشر فى النزول فهى  نزلت بعد سورة الانشراح وقبل سورة العاديات وهي إحدى السور الثلاث التي تعد من أقصر السور وهي سورة العصر الكوثر والنصر .


اشتملت هذه السورة على ثمرات عظيمة منها القسم بأمر غال ونفيس سيأتي تفسيره اشتملت على بيان الخسران الشديد لأهل الشرك ومن كان مثله وشملت على إثبات النجاة وفوز الذين امنوا وعملوا الصالحات والداعين له وللحق واشتملت على تزكية النفس والصبر على الدعوة الحقة والصبر على تبليغ الدين  ولذلك لا نعجب أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذونها شعارا لهم في ملتقاهم روى الطبراني بسنده عن عبد الله بن عبد الله بن الحصين الأنصاري أنه قال: (( كان الرجلان من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا التقيا لم يفترقا ،إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصرالى أخرها ،ثم يسلم أحدهما على الآخر)) وقال الشافعي رحمه الله تعالى : ((لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم ) وعنه أيضا (لو لم ينزل إلى الناس إلا هي لكفتهم ))) .وقال غيره إنها شملت جميع علوم القران .


سورة العصر سورة نحتاج أن نقف معها وقفات ونستخرج من خلالها أركان الشخصية المسلمة المتكاملة وهم أربعة أركان ( العلم النافع والعمل الصالح والتواصي بالحق وهو الدعوة إلى الله عز وجل والتواصي بالصبر. الصبر الذي هو نصف الدين ولا يتم أمر المرء إلا به  )
نبدأ مع هذه السورة بقول الله سبحانه وتعالى " والعصر" ما معنى العصر بادئ ذي بدء لابد أن نعلم أن لله أن يقسم بما شاء  من خلقه تعظيما وتشريفا وإظهارا لقدر المقسم به وأما العباد فلا يحل لهم أن يقسموا إلا بالله صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" وقال صلى الله عليه وسلم " من حلف بغير الله فقد أشرك " 


أما قوله تعالى " والعصر " يقول الإمام الطبري أختلف أهل التفسير فقال بعضهم العصر هو الدهر وهو الزمان كله وقال بعضهم العصر ساعة من ساعات النهار وقال بعضهم العصر هو العشي أي المسافة من بعد الظهر (أي أن يصير ظل كل شيء مثليه )بعضهم يقول إلى اصفرار الشمس أو إلى الغروب وأيضا ذكر بعض أهل التفسير في معنى قوله والعصر انه اقسم بعصر النبي صلى الله عليه وسلم أي والعصر الذي تعيش فيه ايها النبي الكريم وقال الإمام الرازي فهو سبحانه اقسم بزمان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية واقسم بمكان النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْت َحِل ٌّبِهَذَا الْبَلَدِ " واقسم بعمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِم ْيَعْمَهُونَ" وذكر بعضهم انه قد يراد بالعصر عصر الإسلام كله وليس عصر النبي صلى الله عليه وسلم وهو منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم الى قيام الساعة وفي هذا مناسبة فانه مثل عصر النبي صلى الله عليه وسلم مثل عصر الأمة الإسلامية بالنسبة إلى عهد اليهود والنصارى بما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس قال صلى الله عليه وسلم "" مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء يعملون له يوما إلى الليل فعملت اليهود إلى نصف النهار ثم قالوا لا حاجة لنا إلى أجرك وما عملنا باطل واستأجر آخرين بعدهم فقال : أكملوا بقية يومكم ولكم  الذي شرطت لهم فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا : لكم ما عملنا باطل و لك  الأجر الذي جعلت لنا واستأجر قوما أن يعملوا بقية يومهم فعملوا حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما فأنتم هم "...............هذا معنى والعصر وهو قسم ورجح بن جرير أن الصواب من القول أن يقال إن ربنا اقسم بالعصر والعصر اسم  للدهر اى العشي والليل والنهار وليس معنى دون معنى فكل ما اقسم به داخل في هذا الاسم وهذا كلام رائع أي أن الراجح في هذا الكلام أن المعنى هو كل ما تناولناه من لفظ أو اسم العصر داخل في معنى القسم.


هنا لفتة مهمة الله عز وجل حين يقسم بالعصر فيه أهمية وخطورة الزمن فكما قيل ( يا بن آدم ما أنت إلا أنفاس ولحظات إذا مر نفس مر بعضك وإذا مرت لحظة فقدت لحظة من رأس مالك ) فالموفق هو الذي يسابق اللحظات ويغتنم الأوقات لا يدع لحظة تمر إلا أودع فيها عبادة وجدد فيها إيمانه ) نسأل الله سبحانه أن يجدد الإيمان في قلوبنا وان يعيننا على اغتنام الوقت وان يبارك لنا في أعمالنا .
لذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفا مؤلما للذي يضيع عمره فقال "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ " والمغبون هو الذي باع رأس ماله بثمن بخس فالذي ضاع عمره  هباء فهو مغبون أي خاسر الذي يضيع عمره في شهوات فانه يجني على نفسه أعظم جناية فان الذي ملأ وقته بالطاعة حصل النعيم الأبدي والذي اتبع شهواته حصل الخسران السرمدي نعوذ بالله من حال أهل الباطل .


لو تعاملنا مع الأوقات كما تعاملنا مع المال أي لو استشعرنا أن الأوقات تساوي أموال لتغير نظام حياتنا و لتغيرت حياتنا و لتغيرت عاداتنا  ولقل كلامنا وكثرت أعمالنا .


هناك أناس ليسوا بمسلمين لكنهم مجتهدين في أعمالهم فيضنون بأوقاتهم حتى عن النوم تعلمون الرجل الذي يمتلك شركة ميكرو سوفت اسمه بيل جيتس كان حين يسأل عن ثروته يسألهم قبل السؤال أم بعد السؤال فتختلف ثروته من دقيقة إلى دقيقة هذا الرجل كان يبخل على نفسه بالنوم أي من الممكن أن ينام ساعة أو ساعتين لينجح في حياته وليس بمسلم .
لو فتحنا هذا الباب وتكلمنا في حفظ الوقت فليس هناك ما يوقظ الضمير وينبه النفس إلى خطورة الوقت مثل قول النبي صلى الله عله وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي برزة الاسلمي قال ,قال النبي صلى الله عليه وسلم "( لن تزول قدم عبد ًيوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ،وعن شبابه فيما أبلاه ،وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ،وعن علمه ماذا عمل فيه)"ولذا كان السلف احرص الناس على أوقاتهم لأنهم عرفوا قيمة الوقت فكانوا اضن بأوقاتهم من الرجل الشحيح بماله كما ذكر عن الحسن البصري قال (أدركت أقواما كان احدهم أشح على عمره منه على دراهمه ودنانيره " ولذا لما قيل لأحد العلماء قف أكلمك قال "أوقف الشمس "
وبالمناسبة هناك كتاب نافع للغاية ويعين الإنسان على ترتيب وقته ويومه وهو صغير الحجم للشيخ مصطفى دياب " أوقف الشمس " هو أخذه من هذا الأثر.


 وذكر عن أبي فرج انه كان يحدث عن شيخه الرازي قال " كان يحاسب نفسه على الأنفاس حسابا عسير رغم انه لم تكن تمضي عليه لحظة بغير فائدة أما يقرأ أو ينسخ أو يعمل عملا صالحا"ولذلك قال القائل ( والوقت انفس ما عنيت بحفظه واراه أسهل ما عليك يضيع ) لذا نجد كثيرا من العلماء كانوا يعدوا الأوقات التي يحتاجها الإنسان في أعماله اليومية البشرية لكونه انسان مثل الأكل أو النوم أو قضاء الحاجة كانوا يتعذبون في هذه الأوقات وكانوا يتفننون كيف يغتنمون هذه الأوقات ..بعضهم كان إذا دخل الخلاء يأمر ولده أن يقرأ عليه من الخارج حتى لا يضيع وقته وهذا الأمر ليس بمعجز كانت أخت من محفظات القران وهي امرأة كبيرة لها قدم راسخة في حفظ القران كانت تحكي لبعض الطالبات عندها تقول أنا كنت أحفظ بناتي القران إذا دخلت الخلاء آمرهم أن يسمعوا فإذا اخطأوا أصفق فيعيدوا الآية مرة أخرى ....هؤلاء يتفننون في المحافظة على أوقاتهم .
بعض الذين اسلموا من الدول الأوروبية يجتهد في تعلم العلم الشرعي واللغة العربية يسأل هل يمكنني أن استمع إلى شريط وأنا في دورة المياه .


أريد إن أقول إن من يحافظ على وقته سيرى الأعمال التي لابد منها من أعمال الإنسان يجد أنها تنقص من وقته ومن انجازاته لذلك يتفنن في الاستفادة منها لكن بالله عليكم أتظنون إن مثل هذا الإنسان الذي يراعي وقت الخلاء ودورة المياه أتظنونه يضيع وقته سدى أتظنونه يتاجر في النوم أتظنونه يتكلم في الهاتف ساعات طويلة لا طائل من ورائها .


قال بعض السلف لطلابه معاتبا  لهم في كثرة الكلام قال " لو كنتم تشترون الكاغد والحبر للملكين لأقللتم من الكلام " والكاغد هو الورق .
فمسألة حفظ الأوقات أمر في غاية الأهمية ولعل ما يلفت نظرنا في هذا الأمر أن هذه السورة عظيمة القدر التي فيها أركان  الشخصية المسلمة المتكاملة والتي لو ما انزل الله على خلقه غيرها لكفتهم كما قال الشافعي إذا حين يذكر فيها كل هذه الأركان ويقدم لذلك بالقسم بالعصر يدل على أن الإنسان لا يتم أمره ولا ينال فلاحا إلا إذا استفاد من وقته استفادة طيبة واستفادة جيدة .

nbsp;

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق